الأربعاء، 12 يونيو 2013

خط الصعيد

 

تعرف على قصة خط الصعيد كاملة

محمد محمد منصور


في بداية القرن العشرين، كانت مصر تشهد نشاطاً لحركات مقاومة المستعمر البريطاني الذي احتلها منذ العام 1882. وحينما كان الشعب يلتف حول زعيم هذه المرحلة سعد زغلول ويهتف بسقوط الاستعمار مطالباً بالجلاء التام أو الموت الزؤام...

في خط مواز لهذا الجو، كان صعيد مصر يشتعل قلقاً ورعباً ويشهد جرائم قتل وسطو غير مسبوقة تنسب كلها إلى شخص واحد أطلق عليه اسم «الخط»


خط الصعيد



من هو الخط؟

إنه محمد محمد منصور، مواليد قرية «درنكة» مركز أسيوط وتشير التقديرات إلى إنه ولد عام 1907 تقريباً، إذ كان لدى وفاته عام 1947 في الأربعين من عمره.

كان جده فقيهاً في علوم القرآن اشتهر بـ «سر الختمة» أي الأمين على القرآن. عرفت العائلة باسم «الختمة» بكسر الخاء ثم تحور اللفظ فأصبح «الختم» ثم «الخت» ثم تطور إلى «الخط» بضم الخاء.

تميّز الخط بوسامة خاصة. أزرق العينين، ذو بشرة شقراء، سريع البديهة، شديد الذكاء، حاد المزاج، لم يتلق أي نوع من التعليم ولا أحد يعرف شيئاً عن والده إذ نشأ في كنف أمه «فضة» وأشقائه رمضان، الرويعي، عبد الحكيم وتوفيق، في حين تقول مصادر أخرى إن أسماء أشقائه هي الورداني، توفيق، رمضان ومسعد.


بدايته الإجرامية


ثمة روايتان عن هذه البداية، تفيد إحداهما بأنه لما بلغ سن الفتوة اصطدم بشيخ خفراء بلدته المدعو «حميدة» إذ منعه الأخير من الرعي في مكان بعينه وتمادى شيخ الخفراء في تعديه على الشاب «محمد» فوجه اليه صفعة قوية زلزلت كيان الفتى وكان رده عليها في اليوم التالي أن قتل ابن شيخ الخفراء. بعد ذلك قُتل «محمود» عم «الخط» وكبير عائلتهم فكان رد محمد السريع قتل تسعة أفراد من عائلة حميدة شيخ الخفراء، بمعدل ثلاثة كل ليلة.

الرواية الثانية تقول إن محمداً الذي كان يعمل فلاحاً أجيراً عند أهل بلدته «درنكة» كان اقتصد من أجره بضعة قروش وتوجه إلى السوق لشراء رطل لحم فاختلف مع الجزار أبو هاشم حول الوزن فطرده بشكل مهين قائلاً له: روح اشتري كلب واذبحه أحسن لك، في إشارة إلى فقر محمد وتعريضاً به ولما كانت هذه إهانة لمحمد لا يغسلها إلا الدم تناول سكيناً كبيرة وحادة وبقر بها بطن اللحام فأرداه للتو قتيلاً والتفت إلى شهود الحادث من رواد السوق وهددهم ثم اختفى.

أياً تكن البداية، هرب محمد إلى أهل الجبال التي تحيط ببلدته واتخذ من إحدى المغارات مقراً لإقامته وأصبح من المطاردين وشارك أخوته في الإقامة معه في البداية.

بدأت الروايات تنسج حوله، متحوّلاً إلى بطل أسطوري. ونسبت إليه كل الجرائم التي فشل الأمن في العثور على مرتكبها وكانت أسطورته تتضخم يوماً بعد يوم.

خلال وقت قصير، أصبح لـ «الخط» عصابة، معظم أفرادها من الهاربين من العدالة. التفوا حوله لتنفيذ المهمات التي توكل إليهم وكان اخطرهم «صالحين عبد المحسن» وخاله «عواد» إذ كان أشقاؤه جميعاً لقوا مصرعهم وأحداً تلو الآخر في عمليات إجرامية أو مواجهات أمنية، لكن «الخط» كان يعوض خسائر «القوى البشرية» بأعضاء جدد كل يوم من مطاردي الجبل.


نشاط «الخط»


توزع نشاط «الخط» بين حراسة أراضي الميسورين من أهالي أسيوط والأنشطة الإجرامية المختلفة. وكان يباشر أعمال الحراسة بشكل مفروض مقابل إتاوة تبلغ نصف جنيه عن الفدان شهرياً. وكان أصحاب الأراضي وكبار المالكين لا يجدون مفراً من تكليفه بحراسة حقولهم، لأن الامتناع كان يعني القتل أو الخطف وكان عدد الأفدنة التي يباشر حرسها في بداية حياته ثلاثة آلاف فدان ووصل دخله في نهاية عهده عام 1947 خمسة آلاف جنيه شهرياً، ما يساوي خمسة ملايين جنيه اليوم.

ساعدت أعمال الحراسة تلك في مضاعفة سطوته فكان بعض رجاله يقوم بأعمال الحراسة والبعض الآخر بتحصيل الإتاوات وجباية الضرائب التي يفرضها، بحيث انتهت الحال إلى قيام حكومة خاصة بـ «الخط» تحصّل الضرائب وتحمي المالكين الذين لم تستطع الحكومة حمايتهم.

أما الأنشطة الإجرامية الأخرى فكانت موزعة بين السطو المسلح والسلب والنهب والخطف والقتل لحساب الغير أو القتل لفرض النفوذ والسطوة وكلها جرائم نشرت الخوف والرعب في جنوب مصر كله.

لم يكن «الخط» يحتمي بالظلام لدى ارتكابه جرائمه، إنما كان يرتكب جرائمه مع عصابته في وضح النهار ولا خشية من القانون. لم يكن القتل أو السطو المسلح أو السلب أو النهب أو فرض الإتاوات وسائل «الخط» الوحيدة لجلب المال بل كان يفرض نفسه شريكاً لكبار المزارعين فيستولي على بعض الأراضي ويزرعها لحسابه الخاص عن طريق اعوانه في مختلف أنحاء مديرية أسيوط، إلى استيلائه على رؤوس كثيرة من الماشية التي كان يطلقها لترعى في أي مكان والويل لمن يتعرض لها. جمع من ذلك أموالاً طائلة لم يعرف مكانها حتى الآن وقد يكون وضعها في خبيئة خاصة في الجبل حيث كان يحتمي ولم يهتد إليها أحد حتى الآن.

كانت متع «الخط» موزعة بين لف السجائر واحتساء الخمور التي كان يحصل عليها مجاناً من المحال في أسيوط، إلى تعاطي مخدر الأفيون (لم يكن فمه يخلو منه) وكان يحصل عليه مجاناً. أما متعته الأساسية فكانت النساء، وخاض بسببها معارك دامية كما باشر أعمال قتل كثيرة بسبب المرأة وكان يختار نساءه من راقصات الأفراح والموالد وكانت النساء من أسباب سقوطه كما سنعرف لاحقاً.

ويقال أنه تزوج عشر مرات. أنجب من زوجته رشيدة ذات التسعة عشر ربيعاً ابنه الوحيد هاشم الذي لم يجتمع به عشر مرات مذ تزوج حتى مصرعه.


الملك فاروق يعاتب


في 1946 بدأت وزارة الداخلية ترسل حملات أمنية مجهزة الى الجبل حيث يحتمي «الخط» للقبض عليه أو تصفيته جسدياً، لكن «الخط» وعصابته كان لهم بالمرصاد وقتل العشرات من رجال الأمن ومضت شهور من دون ظهور أي شيء يشير إلى تحسن الموقف.

كان الخطّ حتى ذلك الحين قتل ما يزيد على 60 نفساً إلى جرائم الخطف والسلب والنهب وفرض الإتاوات والجبايات.

وفي 1947، خلال الاحتفال بعيد الملك فاروق السابع والعشرين وفيما كان الملك يصافح المدعوين من كبار الشخصيات، جاء دور صاحب السعادة عزيز أباظة باشا، الشاعر الكبير، وكان عهدذاك مدير مديرية أسيوط. بادره الملك بعبارة ذات مغزى خاص فهمه الشاعر الكبير، إذ قال له الملك: قولي يا عزيز باشا هو الحظ بنقطة فوق الخاء ولا نقطة فوق الطاء؟!، وكان ظاهر العبارة أن الحظ يلازم الخط الذي كانت أخباره ملء السمع والبصر، لكن المعنى المبطن للعبارة كان يقصد به فشل مدير المديرية في القضاء على «الخط» ونوع من اللوم المخفي في ثنايا الدبلوماسية الملكية.

عاد الباشا المدير الى أسيوط واجتمع بمعاونيه وراح يلومهم ويوبّخهم ويتهمهم بالتقصير وخص عبدالحق بك مأمور مركز منفلوط بالقدر الكبير من اللوم والتوبيخ فعاد عبد الحق بك إلى مقر مركز الشرطة موجهاً اليهم بدوره اللوم والتوبيخ وقرر خلال اجتماعه بضباطه تشكيل فرقة لمطاردة «الخط» أطلق عليها «فرقة الموت» بقيادة الملازم أول محمد سعيد هلال وبمساعدة الكونستابل محمود الغول.

كانت مهمة هذه الفرقة قتل الخط لا القبض عليه، على أساس أن أجهزة التحقيق أمام النيابة والقضاء قد لا تقتنع بشهادات سمعية ولأن «الخط» لم يضبط مرة واحدة متلبساً بارتكاب جريمة.

راحت الفرقة تجوب أنحاء أسيوط وتقترب من الجبل الذي يختبئ «الخط» فيه وتتبادل الاشتباكات مع المطاردين في معارك سقط خلالها أكثر من مئة مطارد، لكن «الخط» لم يكن بينهم إذ كان يتمتع بنوع من الحدس وقدرة فائقة على الرماية.

كانت بندقيته الإنكليزية من طراز «لي انفيلد» ذات خزنة تتسع لعشر رصاصات تسبق خطواته، وكان يستطيع إصابة ضحيته بها في الرأس من على بعد مئات الأمتار.

كان رجال الشرطة يدركون وكذلك «الخط»ـ أن الخروج من الجبل والنزول إلى الأرض المنبسطة فيه نهايته، لذا وضع ضباط الداخلية خطة لاستدراج «الخط» إلى الأرض المنبسطة.

ولما كان مأمور منفلوط يعلم مدى غرام «الخط» بالنساء استأجر ثلاث راقصات ليرقصن ثلاثة أيام متصلة في بلدة العزبة التابعة لمنفلوط، لعل «الخط» يبتلع الطعم، لكن المثير هنا أن «الخط» ذهب إليهن فعلاً واستمتع بهؤلاء الراقصات «الحكوميات» ثم تمكن من الفرار!


وابورات المياه


تشكل مسألة الري في الصعيد أزمة كبيرة للمزارعين عندما يحتاجون إلى كميات كبيرة من المياه لري زراعاتهم، ولذا استعان كبار المالكين منهم بما عرف بـ «وابورات المياه» وهى عبارة عن طلمبة رفع مياه آلية تعمل بمحرك ديزل وتوضع وسط زراعاتهم وتبنى لها غرفة كبيرة ويلحق بها مكان لإقامة الحارس وأسرته نظراً الى بعد هذه المنشآت عن بيوت القرية. ومع الوقت أصبحت تلك الوابورات المكان المفضل للعصابات فتلتقي فيها للترتيب لعملياتها أو للاستراحة قبل هجماتها الإجرامية أو بعدها.

كانت قواعد الأمن لدى تلك العصابات تقضي بالتنقل السريع بين الوابورات خوفاً من انكشافهم فيما لو طالت إقامتهم بها وكان «الخط» حريصاً على تطبيق تلك القواعد حتى ألقى به «الهوى» في وابور «المالطي» حيث كانت زوجة الخفير القائم على حراسته وتدعى «حليمة» ذات جمال صارخ فوقع في غرامها وأقام معها علاقة محرمة فعاشا معاً أوقاتاً من المتعة جعلته يفقد حرصه ويتناسى المحاذير كلها.


عشق ومكائد


أكثر من أوقات وجوده في وابور المالطي بجوار عشيقته التي كانت تجيد فن الغرام وفن الطهو معاً.

وبسببها غير خططه التكتيكية في طريقة ارتكاب جرائمه فبعدما كان يرتكب جرائمه ويلجأ إلى مغارته المحصنة في الجبل، أصبح يلجأ إلى وابور المالطي ليرتمي في أحضان حليمة ووصلت رائحته إلى رجال الأمن فشرعوا في رسم الخطط لاصطياده على الأرض المنبسطة بعدما أراحهم من عناء المطارة على قمم الجبال.

كان وابور المالطي يقع في دائرة منفلوط وبدأت الجرائم تتزايد في تلك المنطقة وعلم مأمور مركز منفلوط عبدالحق بك بأن «الخط» استقر في قرية العزبة لدى محروس عازر أحد الأعيان الكبار فيها فاتصل به المأمور وناقشه في أمر «الخط». وفي نوبة ضيق من طلبات «الخط» أبدى محروس عازر استعداده للتعاون مع الشركة والإيقاع به، لكن مع اقتراب ساعة التنفيذ تراجع محروس خوفاً من «الخط».

أخذ «الخط» أخذ يثقل في طلباته على محروس مثل توفير الطعام والسجائر وزجاجات الخمر، لمواصلة سهراته مع حليمة في وابور المالطي، وكان محروس يدفع مصاريف كل احتياجاته وبدأت نية محروس تتجه الى التعاون الصادق مع الشرطة للايقاع به، لكن من دون «معارك» في بيته، فعرض عليه المأمور أن يضع له مخدراً في الطعام لتستطيع الشرطة الإمساك به من دون إراقة دماء، لكن الخطة لم تفلح، فـ «الخط» لم يكن يأكل أي طعام قبل أن يأكل منه المضيف أولاً.


عمدة جحدم


كان أهل المنطقة جميعاً يعرفون أن حمدي خليفة عمدة جحدم على علاقة وثيقة بـ «الخط» وقام غالباً بدور الوسيط لإعادة المخطوفين فاتصل به مأمور منفلوط عبدالحق بك ووجد لديه رغبة صادقة في التعاون معهم للقبض على «الخط» بسبب الظروف التي كان يعيشها العمدة حمدي خليفة في تلك الأيام.

كان «الخط» خطف في تلك الأيام صبياً يدعى شوقي عوض حنا مطالباً أهله بفدية قدرها مائتي جنيه فطلب أهل الصبي وساطة العمدة لدى «الخط» فذهب إليه وحده ونجح في خفض المبلغ إلى مائة جنيه فقط وعاد بالصبي المخطوف.

في صباح اليوم التالي خرج «الخط» إلى المكان المتفق عليه لتسلّم الفدية فوجد شقيقي المخطوف غير حاملين المبلغ فتصور «الخط» أن هناك مؤامرة عليه فساق الشابين أمامه الى حقل ذرة.

لكن على الطريق شاهد أحد الرعاة «الخط» ومعه معاونه «عبد الصالحين» يسوقان الأسيرين إلى الحقل فأسرع الراعي مهرولاً إلي العمدة لإخباره خوفاً من أن يصيبهما سوء. لدى معرفة العمدة بالأمر جمع عدداً من أقاربه المسلّحين واتجه الجمع صوب مكان الحقل الذي دخله «الخط» مع الشابين.

تنامى الى سمع العمدة صوت رصاص قادم منه، ما أكد له أن «الخط» قتلهما ووصل العمدة إلى «الخط» والدم يغلي في عروقه ودارت بينهما مشادّة كلامية انتهت بإطلاق العمدة وأقاربه وابلاً من الرصاص على «الخط» وزميله وبادله «الخط» إطلاق الرصاص، ثم سكت صوت البنادق واكتشف الجميع مصرع «الخط» بإحدى وعشرين طلقة وإلى جواره معاونه «عبد الصالحين» وقد مزقه الرصاص. وكان ذلك في 6 أغسطس 1947.


المشهد الأخير


حمل عبد الحق بك مأمور المركز ورجاله جثة «الخط» وعرضوها على الخالة فضة والدته فأنكرت أنه ابنها، وطلبت من المأمور أن يلقي بالجثة بعيداً فلجأ الأميرالاي عباس بك عسكر حكمدار أسيوط إلى حيلة ذكية عندما صاح في رجاله أن يستدعوا الطبيب الشرعي لتشريح الجثة فانهارت فضة وصرخت طالبة ألا يتم تشريح الجثة، قائلة: «يا بك دا ولدي» ثم راحت تصرخ: «يا أزرق العينين.. يا أشقر».

أما زوجته رشيدة،فظلت تصيح وهي تهدد» ٍسننتقم لك من قاتليك يا زوجي... يا أبو ولدي».

وجاء المشهد الأخير مع إلقاء جثة «الخط» في عربة نقل مكشوفة بجوار جثة رفيقه «عبد الصالحين»، وفي ركن من العربة وقفت أمه فضة وزوجته رشيدة متشحتين بالسواد. وأمام العربة سيارة أخرى تقل صاحب العزة الأميرالاي عباس عسكر حكمدار أسيوط، يحيط بها عدد من كبار رجال الأمن في سياراتهم وعلى دراجاتهم النارية. طافوا في شوارع مديرية أسيوط وكان الأهالي يتفرجون على جثة المجرم الخطير، غير مصدقين أنه مات.

ثم أمر الحكمدار بأن يتجه الموكب إلى بلدة درنكة مسقط رأس «الخط»، حيث كان الأهالي يحتلفون بعيد العذراء فشهد ألوف البشر «زفة» «الخط» إلى مثواه الأخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتواجدين الان